القديس الأنبا أرسانيوس
تحتفل الكنيسة بعيد نياحته في 13 من شهر بشنس.
وُلد في روما حوالي عام 354، نال ثقافة عالية كما كان من الأشراف، قيل أنه سيم شماسًا. سلمه ثيؤدوسيوس الأول بالقسطنطينية أبنيه ليتتلمذا على يديه، وهما هونوريوس الذي صار إمبراطورًا للغرب وأركاديوس الذي صار إمبراطورًا للشرق بعد موت أبيهما.
كان الفيلسوف يسأل الله: "عرفني يارب كيف أخلص؟" فجاءه يومًا صوت يقول له: "يا أرساني اهرب من الناس وأنت تخلص". وبالفعل سافر إلى الإسكندرية ومنها إلى الإسقيط بوادي النطرون، حوالي عام 400 م رآه القديس مقاريوس محبًا للهدوء فأعطاه قلاية (حجرة لراهب) خارج الدير، ولم يبق القديس مقاريوس إلا أيام وتنيح. عاش كمتوحد يعشق الهدوء والسكون، يكرز بصمته ودموعه مع صلواته وتواضعه، وفي عام 434 إذ حدثت الغارة الثانية على الإسقيط انتقل إلى طرة ثم كانوبيس بجوار الإسكندرية وعاد إلى جبل طرة حيث تنيح حوالي عام 440 م.
سار أرسانيوس في حياة القداسة واشتهر بتواضعه، فكان يجلس عند قدمي أحد الرهبان الأميين يتتلمذ له، وقال: "إني درست اللاتينية واليونانية، أما ألفا فيتا التي يعرفها هذا المصري الأمي فلم أتقنها بعد".
إذ جلس يضفر الخوص (السعف) تنساب دموعه من عينيه حتى تساقط شعر جفونه من كثرة البكاء، وكان في الصيف يبلل السعف بدموعه، وكان يضع منشفة على حجره تتساقط عليها الدموع أثناء عمله.
يظهر مدى عشقه لحياة الوحدة في شيء من الحزم لما جاءه البابا ثاوفيلس ومعه حاكم، يسأله كلمة منفعة. إذ صمت قليلاً طلب منهما أن يعداه بممارسة ما يقوله لهما، ولما وعداه، قال لهما: "إن سمعتما عن أرساني في موضع ما فلا تذهبا إليه".
مرة أخرى أرسل إليه البابا يستأذنه بالحضور، فبعث إليه القديس أرسانيوس الرسالة التالية: "إن جئت فتحت لك، وإن لم أفتح للكل فلا أستطيع أن أعيش بعد هنا". لهذا لم يذهب البابا إليه حتى لا يقطع خلوته.
سأله الأب مرقس: "لماذا تهرب منا؟" أجاب: "الله يعلم إني أحبكم، ولكنني لا أستطيع أن أكون مع الله والناس (كمتوحد). ألوف وربوات السمائيين لهم إرادة واحدة وأما الناس فلهم ارادات كثيرة. لهذا لا أقدر أن أترك الله وأصير مع الناس".
قال للأب دانيال إنه يقضي الليل كله ساهرًا، وفي الصباح المبكر إذ تلزمه الطبيعة بالنوم، يقول للنوم: "تعال أيها العبد الشرير"، ثم يجلس ليختطف قليلاً من النوم ويستيقظ.
قيل أن أخًا غريبًا جاء إلى الكنيسة بالإسقيط وطلب أن يبصر القديس أرسانيوس، وقد رفض أن يأكل شيئًا حتى يراه. وإذ أرسل معه أب الرهبان أخًا التقيا مع القديس الذي بقى صامتًا حتى خجل الأخ الغريب واستأذن لينصرف، ثم عاد يطلب الالتقاء مع القديس أنبا موسى الذي كان قبلاً لصًا، فالتقى به بفرح وعزاه بكلمة الله ثم صرفه. قال له الأخ الذي رافقه: "ها قد أريتك الأجنبي والمصري، فمن من الاثنين أرضاك؟!" أجابه قائلاً: "المصري". وإذ سمع أحد الإخوة ذلك صلى إلى الله، قائلاً: "اكشف لي هذا الأمر يارب، فإن واحدًا هرب من الناس لأجل اسمك، والآخر يقبلهم بأذرع مفتوحة لأجل اسمك أيضًا." وإذ ألح في الصلاة رأى سفينتين عظيمتين في نهر، ورأى الأنبا أرسانيوس مع روح الله يبحر بواحدة في هدوء كامل، وفي الأخرى الأنبا موسى مع ملائكة الله يأكلون كعك عسل.
حقًا ما أحوجنا إلى أُناس كأرسانيوس يحملون الحياة الملتهبة المقدسة كسّر بركة للكنيسة، يخدمونها بصلواتهم المستمرة وفكرهم في الرب غير المنقطع. يتكلمون بالصمت ما هو أقوى من الكلام، كما نحتاج موسى العامل يبسط ذراعيه للنفوس المنهارة ليشددها بالرب ويضمها بالروح القدس لتأكل وتشبع من دسم بيت الرب!
حقًا لقد اتسم القديس أرسانيوس بالحزم الشديد في وحدته، حتى وبخ إحدى الشريفات القادمة من روما لتزوره، قائلاً: لها أنه ما كان يليق بها أن تجول البحر والبر لتراه، وإنما كان يلزمها أن تقتدي به إن أرادت، فبحضورها تحول البحر طريقًا للنساء يأتين لزيارته. بل وحينما سألته أن يذكرها في صلواته، أجابها أن يصلي لكي يمحو الله من قلبه خيالها واسمها وذكرها وفكرها، هذا كله مع ما فيه من قسوة ظاهرة أتعبت المرأة إلى حين إنما فعله لا عن كراهية ولا عن ضيق قلب وإنما ليغلق باب الزيارات عليه إذ كان معروفًا في روما، وخشي وأن تقتدي شريفات روما بها فتتحول حياته إلى مجاملات ومقابلات كثيرة يفقد خلالها هدوءه. لكن كما قال لها البابا ثاوفيلس إنه بلا شك سيصلي لأجلها، فهو صاحب قلب كبير متسع. هذا يمكننا أن نلمسه مما قاله عنه تلميذه دانيال أنه كان دائم البشاشة وسط دموعه. وكأن صمته ووحدته ونسكه لا يحمل كبتًا بل فرحًا، ولا يخفي فراغًا بل شبعًا… كان صاحب القلب الكبير المتسع حبًا لله والناس. هذا ما قد انعكس على وجهه وملامحه، فصارت صورته شهادة حق لعمل النعمة الخفية فيه أكثر من الكلام والعظات.
من كلماته المأثورة
v تأمل يا أرساني فيما خرجت لأجله!
v إن طلبنا الله يظهر ذاته لنا، وإن أمسكنا به يبقى ملاصقًا لنا.
v كثيرًا ما تكلمت وندمت، أما عن السكوت فلم أندم قط.
بركة صلواته فلتكن معنا آمين