الهاربون من اللَّه
بقلم قداسة البابا شنوده الثالث
الأشخاص الروحيون يسعون إلى اللَّه بكل قلوبهم، ويحاولون القرب منه، شاعرين أنه سبب حياتهم ومصدر قوتهم. وإن بعدوا عنه فترة، سرعان ما يعودون ... على أن هناك آخرون بالعكس يبعدون عن اللَّه بل يهربون منه. فما هى أسباب ذلك الهروب؟ وكيف يمكن مقاومته؟ وما هى أيضاً درجات هذا الهروب؟
?? من أشهر الهاربين من اللَّه: جماعة الوجوديين. الذين يقول الواحد منهم: إن وجود اللَّه يمنع وجودي! فمن الخير لي أن اللَّه لا يوجد، لكي أوجد أنا! ويقصد من عبارة: " لكي أوجد أنا ". أي لكي أتمتع بالوجود حسبما أريد، بعيداً عن اللَّه الذي يمنعني من أمور كثيرة يُضيِّق بها عليَّ فلا يمكنني أن أنال حريتي في أن أفعل ما أريد. هذا الإله يريدني أن أقول له باستمرار: " لتكن مشيئتك ". بينما أنا أريد أن أُنفِّذ مشيئتي الخاصة لكي أذوق طعم الحياة وألتذ بها. فلهذا أنا أهرب منه ...
?? هذا الهارب من اللَّه يقول بصراحة: أنني أهرب من اللَّه حينما يختلف فكري عن فكره. فأنا أرى أحياناً أن الكذب يُنجِّني من مشاكل كثيرة فيستر عليَّ في أخطائي. وبهذا الكذب أصير بريئاً في أعين الناس! بينما اللَّه يقول لي لا تكذب. وكذلك يمنعني عن كل خديعة أخدع بها غيري، بينما بهذا الخداع يُمكني أن أصل إلى تنفيذ غرضي. وينطبق هذا أيضاً في أمور عديدة أرى فيها أن فكري غير فكر اللَّه. فمثلاً أرى أن الاحتفاظ بكرامتي يدعوني إلى أن أنتقم لنفسي، وأرد على الإهانة بإهانة، وهذا ما ينهاني اللَّه عنه. فحينئذ يضطرني الأمر إلى الهروب من وصية اللَّه! وبالتالي بالنسبة إلى كثير من وصاياه .. أرى أن الهروب منها نافع لي .. ولا شك أن الهروب من وصايا اللَّه هو جزء من الهروب من اللَّه نفسه.
?? واضح أيضاً أن الشهوة من أهم أسباب الهروب من اللَّه، إذا كانت شهوة خاطئة، ولا يريد الإنسان أن يتركها. فلهذا يترك اللَّه بسبب الرغبة في تنفيذ تلك الشهوات. ومثل هذا الخاطئ الذي تبعده شهواته عن اللَّه، يُبرِّر موقفه من هروبه من اللَّه بقوله: " إن صرت مع اللَّه، سأنقسم على ذاتي. وسأدخل في صراع بين الروح والجسد، وصراع بين الخير والشر! وأنا لا أريد أن أُتعب نفسي بهذه الصراعات ".
كثيرون من هذا النوع لا يريدون أن يواجهوا الواقع إطلاقاً، لأنهم يخافونه. كإنسان مريض بمرض خطير: يهرب من الطبيب ومن الكشف، ومن الأشعة والتحاليل، لكي يستريح! ولو راحة وهمية، هارباً من الواقع لأن الواقع يتعبه.
?? ومن الذين يهربون من اللَّه نوع لا يريد أن يتحمَّل مسئولية خطيئته. ففي حالة الخطية كانوا هاربين من اللَّه. وبعد إرتكابها لا يريدون أن يتحمَّلوا مطالب التوبة. فما معنى التوبة؟ هل معناها متاعب الندم على تلك الخطايا، وتبكيت النفس عليها، والتعب الذي يتعبه الضمير. وما أسهل على الإنسان أن يقول: مالي وكل هذا؟! هل من الواجب عليَّ أن أدخل في عقدة الذنب sence of guilt؟! أم من الأفضل أن أهرب من كل هذا وأستريح. إن التوبة ومطالبها صعبة في نظر هؤلاء والهروب من تعب الضمير أمر سهل ولطيف ومريح حتى
لو كان معناه الهروب إلى خير ومن الواقع ومن مواجهة النفس.
?? البعض يرى أن الهروب من اللَّه ومن وصاياه، سببه اليأس من إرضاء اللَّه الذي يطالبنا بالبر والقداسة وبالكمال النسبي. فيقول: " ما دام طريق الفضيلة طويلاً بهذا الشكل، فلن يمكنني أن أبلغه، فالأفضل أن أتركه حتى لو حُسِبَ ذلك هروباً ".
هناك فتاة تهرب من اللَّه لأنها ترى أن الحياة مع اللَّه معناها أنه سيحرمها من الزينة ومن الملابس التي تُظهِر محاسنها. وهناك موظف يرى أن اللَّه سيحرمه من التباهي والتفاخر بسلطته. وإنسان ثري يرى أن اللًَّه سيحرمه من الفخر بالثراء ومتعته أو نقص أمواله عن طريق العطاء! وآخرون يهربون من اللَّه بسبب الهروب من واجبات العبادة التي تشغل الكثير من الوقت!
?? البعض يهربون من اللَّه لأنهم يرون أن طرقه ضيقة بينما البعيدون عن اللَّه مستريحون، يستطيعون أن يفعلوا كل شيء بسهولة غير مقيدين بشيء: فبالتساهل في الأخلاقيات يمكن كسب عدد كبير من الأصدقاء. وبعباراتين من التملق يمكن كسب الرؤساء ويمكن خداعهم، وبشيء من الرياء الخفيف يمكن الحصول على إحترام الناس، وبضربة قاسية ومؤامرة خفية يُمكن التخلُّص من جميع المقاومين. وبشهادة مرضية مزوَّرة يمكن التغطية على كل غياب، وبالرشوة والمحسوبية يمكن الوصول لكل غرض. بينما الذين يعيشون مع اللَّه، نغلق أمامهم أبواباً كثيرة ... لذلك يرون أن الهروب من اللَّه أفضل، بل يتطرف البعض ويقولون: إن السير مع اللَّه لم يعد يناسب العصر! ووسائل المتدينين ليست ناجحة.
?? إننا نقول للهاربين من اللَّه: " مهما هربتم من اللَّه، فسوف يبحث عنكم، لكي يردكم إليه ". وكذلك فإن طريق اللَّه وإن كان يحرم الخطايا والآثام إلاَّ أنه ليس كئيباً بالدرجة التي يصوّرها الشيطان. الذي يتعوَّد حياة البِرّ، كثيراً ما يجد فيها متعة تريح قلبه وضميره وفكره. وتجلب له ثقة من المحيطين به.
وإن كان البعض يقول: كيف أعيش مع اللَّه وأترك كل الخطايا التي أحبها وأجد فيها لذَّة؟ بينما حياة البِرّ فيها صعوبة؟! نقول: إن هذا قد يكون في بداية الطريق فقط ولكن إذا نما الإنسان في حياة البِرّ فسوف يجد فيها لذَّة ومُتعة، وتصير سهلة أمامه. إن الشيطان قد يصوّر لك أن طريق الرب صعب عليك لكي تهرب منه! ولكن هذه خدعة. فحتى إن كانت بعض وصايا الرب صعبة في تنفيذها، فإن اللَّه يُعطي معونة بنعمته، ويُصيِّر الصعب سهلاً.
?? نقول أيضاً للهاربين من اللَّه: اهتموا بمصيركم الأبدي، لأنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟! إنك مهما هربت من اللَّه، فلن تستيطع أن تهرب من يوم الحساب. لذلك في كل خطاياكم لا تنظروا إلى اللَّه باعتباره القوة المانعة التي تمنع من إرتكاب خطايا مُعيَّنة، بل أُنظروا إليه باعتباره القوة المانحة التي تمنح كل موهبة وكل قوة.